العلم في حياة الأبناء هو النور الذي يبصرون به طريقهم فلا يتخبطون في ظلمات الجهل، وهو الحصن الذي يدافعون به عن عقيدتهم فلا يتعثرون في خنادق الفتن والشبهات.
وهو الجبل الذي يرتقون قمته لينشروا الخير والحب والسلام للعالم أجمع، وتحصيل العلوم النافعة هي أصل في ديننا لا يمكن أن يحييَ المرء قلبه إلا به.
والعالم الحق هو الذي يصل به علمه الى معرفة الخالق جل وعلا وخشيته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
وإن كان الآباء يجاهدون ماديا ومعنويا كي يصل أبناؤهم إلى أعلى الدرجات العلمية والمهنية فإن منهم من يهمل تربيتهم وتأديبهم وتثقيفهم دينيًا وخلقيًا واجتماعيًا.
فيشب الابن وقد بلغ مكانة علمية أو سلطة سياسية أو منصبًا قياديًا كبيرًا ولكن خلل التربية والتأديب واضح في سلوكياته ومعاملاته.
يقول أحد الأطباء:
أبي كان دائم التعنيف لي وأخوتي إذا خسرنا نصف درجة في الاختبارات المدرسية، وكان يضربنا إذا تفوق أحد علينا، حتى وصلنا الى كليات القمة.
ولكن لا يدري أحد منا كيف يتم صلاته أو وضوءه، فقد كان أبي يكرر أننا سوف نتعلم أمور ديننا تدريجيا وبشكل تلقائي عندما نكبر، ولكننا للأسف كبرنا وتزوجنا وشغلنا مناصب رفيعة ولكن لا ندري عن ديننًا شيئًا.
هدف.. رؤية.. رسالة:
وحول هذا الموضوع تقول د/ فاطمة الروبي، خبيرة التنمية البشرية:
من المفترض قبل بداية أي عمل في حياتي أن أحدد الهدف المطلوب منه حتى أسير بخطوات صحيحة وثابتة نحو تحقيقه، وعلى الآباء أن يضعوا الأهداف المقصودة من تعليم أبنائهم وهم صغار حتى تكون لديهم رؤية ثم رسالة يسعوا إلى تحقيقها في كل مراحل حياتهم.
وتشير إلى أن الطفل الصغير تكون لديه قدرات عقلية وإبداعات ذهنية لابد من تنميتها بواسطة الأهل والمؤسسات المعنية بذلك، حتى يبرمج عقله ويؤهل ذهنه لاستقبال الأهداف المرجو الوصول إليها.
وهذا لا يتم إنجازه بالتركيز على أسلوب الحفظ والتلقين كما يحدث في معظم مدارسنا، ولكن يقوم على إعطاء الطفل مساحة أكبر من التفكير والابتكار والإبداع.
وتوضح د/ الروبي أن الجو العائلي الذي يتسم بالروح الإيجابية والهدوء والتفاؤل والتعاون والمرح والمبني على الأسس العقائدية والخلقية والتربوية السليمة هو التربة الخصبة الذي يخرج منها نبت صالح ونافع، يلم بعلوم دينه ودنياه، ويدرك أهدافه، وتتضح رؤيته، ويؤدي رسالته بإيجابية نحو ذاته ومجتمعه ووطنه على أكمل وجه.
وتؤكد أن التربية في الصغر تمتزج مع التعليم، فالطفل الصغير يتعلم ويتأدب في وقت واحد.
وتحصيل العلم لابد أن يصقل شخصية الأبناء ويرتقي بهم خلقيًا وتربويًا وسلوكيًا حتى يكون علمًا نافعًا وليس مجرد كلام نظري تمتلأ به العقول فقط.
وتضيف الخبيرة أننا يجب أن ندعم الطفل ونشجعه على النجاح والإنجاز والتفوق منذ مرحلة التعليم الأساسي.
ويتم ذلك بهدوء ونظام وصبر وإدراك لقدرات الطفل واستيعاب للفروق الفردية بينه وبين أقرانه، مع أهمية التركيز بشكل دائم ومستمر على الهدف من وراء التعليم، مستخدمين في ذلك الثواب المعنوي وليس المادي.
فإذا تفوق الابن قد يحصل على رحلة جميلة بصحبة العائلة، أو نوجه له كلمة افتخار وتقدير، أو حتى ابتسامة لها مغزى، حتى لا يرتبط بالثواب المادي فيضيع الهدف ويضعف إقباله على تحصيل العلم إذا اختفى الثواب.
علو الهمة:
ومن الناحية التربوية يوضح م / مصطفى رشاد، الخبير التربوي، أن علو الهمم يوصل الى القمم، وأن الهمة العالية للأبناء هي مفتاح للتفوق.
وهي التي يغرسها الآباء فيهم منذ الصغر، ليس لتحصيل العلم فقط، وإنما للنجاح في أمور حياتهم كلها.
كالتفوق الرياضي والثقافي والمجتمعي، فالعلم لابد أن يشمل كل نواحي الحياة، حتى تكتمل الشخصية السوية للإنسان.
وطلب العلم يعد أساس الحياة، ولكنه أيضًا ليس الحياة كلها، بل هو جزئية من الجوانب الحياتية التي يجب أن يصقلها المرء ليسد ثغرة مهمة في بنيان إنسانيته.
ويؤكد م/ رشاد أن الهمة العالية في طلب الشيء تذلل الصعاب، وتشع الأمل في القلوب، مهما كثرت الإحباطات وزادت المعوقات.
وقد ذكر لنا التاريخ نماذج كثيرة لذلك، فهذه السيدة هند بنت عتبة قبل دخولها الإسلام تتوقع لابنها معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنهما- أن يكون سيد العالم.
وليس سيد قومه فقط، كما تنبأ البعض، وكم من أمهات فضليات اليوم كان لهن دور عظيم في حياة أبنائهن، فوالدة الدكتور العالمي أحمد زويل كانت تكتب على غرفته منذ صغره "د / أحمد زويل" ليصبح كما نراه الآن.
ويوضح أن الخلق والعلم لا ينفصلان، فهما الجناحان اللذان يحلق بهما الأبناء نحو القمة، وإذا أهمل أحدهما عجز الجناح الآخر على الارتفاع.
فكم من أُناس وصلوا الى مراتب عالية في مجتمعاتهم ولكننا نجد منهم الطبيب الفاسد والمهندس الغشاش والضابط القاسي والعاق لوالديه.
كما سمعنا عن الأم العجوز العمياء التي ألقاها ابنها رفيع المستوى في الصحراء وأوهمها أنها المستشفى، ولولا مرور إحدى السيارات وإنقاذها لقضت حتفها من الجوع والبرد.
ويضيف الاستشاري: وهذه القصص تكررت كثيرًا هذه الأيام، فنجد المسئول الكبير يتنصل من أبويه، ونسمع عن رئيس أسبق تنكر لوالده عندما زاره وهو ما زال في كليته العسكرية.
والآن نرى ما حدث لكل هؤلاء اللذين وصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية والمهنية والدنيوية.
ولكن نصيبهم من الخلق والتربية كان صفرًا، ولذا فعلينا ألا يكون التحصيل العلمي للأبناء وتفوقهم فيه هو الشغل الشاغل للآباء وفقط، حتى نجني ثماره الطيبة ونتجنب أشواكه المؤلمة.
نصائح غالية:
وحول هذا الشأن يبدأ الداعية محمود القلعاوي حديثه بهذه الكلمات: نصح أحد السلف الصالح أحد أولاده:- "يا بنى لأن تعلم بابًا من الأدب أحب إليَّ من أن تعلم سبعين بابًا من أبواب العلم".
و آخر:- "من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله"، وقال ثالث:- "بالأدب تتفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل".
ويضيف: هذه الكلمات النورانية تعلمنا كيف أن الأدب والتربية وحسن الخلق علاقتهم وثيقة بالعلم والذهاب للمدرسة..
وإن المقصد ليس فى الحصول على شهادات من المدارس والجامعات، بل المقصد أعظم من هذا، وهو أن نحصل على علم تمتلئ به القلوب خشية، وتكوّن فينا جيلًا صالحًا، وتهدي أولادنا إلى الطريق القويم الذي نبني به بلادنا ووطننا.
ويكمل: لابد أن نحدث ثورة في نظرتنا لمدارسنا تواكب ثورة تعيشها بلادنا، نريد علمًا لأودلانا ترفع به درجاتهم فى الدنيا والآخرة:- {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
نريد العلم النافع الذي يأخذ بأيدينا إلى دروب التقدم والعزة والرفعة التي افتقدناها طويلًا، نريده علمًا يوصلنا إلى مرضاة ربنا، ونبني به وطننا الحبيب، ونكون في صفوف الدول المتقدمة لا في صفوف الدول المتخلفة المتأخرة.
فما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم، رحمه الله: "أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره".. وكذلك ما ذكره الإمام ابن المبارك:- "نحنُ إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم".
ويشير إلى اهتمام الأئمة والعلماء الأوائل بجعل العمل لا يصح إلا بالعلم، فالمرء يعرف دينه بالعلم ويترجمه بالعبادات والسلوك والمعاملات.
فقد كتب الإمام البخاري "باب العلم قبل العمل"؛ ليدل على أهمية العلم قبل العمل، وليدل على أن التربية والأثر الصالح لهذا العلم لابد أن يكون عملًا صالحًا وخلقًا طيبًا.. "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فالمعرفة لابد أن يتبعها سلوك.
ويوضح أن كل أنواع الأدب مطلوبة، ولكن أوجبها ونحن نتحدث عن المدراس والجامعات، الأدب مع الكبير، قال صلى الله عليه وسلم:- «ليس من أمتي من لم يجلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه».
فالعلم والأدب الأصل أنهما متلازمان، لا أدب دون علم ولا علم دون أدب، فالفكرة ليست فى شحن العقول بمسائل رياضيات ونظريات علمية وأبيات شعرية وفقط؛ بل لابد من تأثر أولادنا بذلك العلم؟.
وبهذا كله نخرِّج طلاب علم على خلق وأدب، لا طلاب شهادات وفقط.
الكاتب: هدى سيد
المصدر: الإسلام اليوم